تركيا في سوريا.. بين الأطماع التوسعية والتهديد الاستراتيجي

Photo credit: ANCUR Las Americas / UNHCR

Photo credit: ANCUR Las Americas / UNHCR

مزقت الصراعات المسلحة ذات الصلة بـ"الربيع العربي"، بشكل أو بآخر، سوريا منذ العام 2012، حيث تشير الحالة السورية إلى ارتدادات "الربيع العربي" على تطورات الصراعات الاقليمية، اذ ان سلسلة الأحداث التي أطلقها كانت مختلفة في كل بلد، تبعاً لاختلاف الظروف المحلية واعتبارات الحدود الجغرافية.

في سوريا، تصاعد الصراع وتزايد تعقيده، ونشطت أعداد متزايدة من الجماعات، بعضها تأثر بأفكار نسبها الى الاسلام، وضم مقاتلين أجانب أحضروا معهم تقنيات وتكتيكات جديدة، وامتد الى الدول المجاورة، التي تأثّرت وأثّرت في مجريات الأحداث السورية، أبرزها تركيا، الجارة الشمالية لسوريا.

الشمال السوري ومشروع "تركيا الكبرى"

شنت القوات التركية عمليات عسكرية واسعة في الشمال السوري مرتبطة بأطماع في سوريا والعراق، تعكسها السياسات التركية منذ نحو عشر سنوات من خلال دعم التنظيمات الراديكالية، والسعي التركي لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، ودعم الجماعات المسلحة المسيطرة على منطقة إدلب وريفها. عزز هذا الاعتقاد، إدراج خريطة قديمة في المناهج الدراسية للتلاميذ الأتراك تضم شمال سوريا من الساحل مروراً بشمال حمص وإلى شمال العراق، بالإضافة إلى جزيرة قبرص على أنها أراضٍ تركية، وهو ما تحدث عنه رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داوود أوغلو، والذي شغل قبل ذلك وزارة الخارجية، في كتابه (العمق الاستراتيجي)، حيث يعتبر أن البنية الدفاعية التركية تلزمها بتطوير استراتيجية دفاعية، تذهب إلى أبعد من مجرد الحدود الدولية الموجودة على الواقع وداخل حدودها القانونية فحسب، بل يفرض عليها التدخل في أي وقت في قضايا متعددة خارج حدودها.

يأتي هذا بالتزامن مع نشر "ميتين غلونك"، وهو عضو في البرلمان عن حزب العدالة والتنمية الحاكم، تغريدات تدعو إلى تركيا الكبرى، التي تضم مساحات واسعة من شمال اليونان وجزر بحر إيجه الشرقية، ونصف بلغاريا وقبرص وأرمينيا في مجملها، ومناطق واسعة من جورجيا والعراق وسوريا.

من هنا تتّضح أسباب السعي التركي للبقاء في مدينة إدلب السورية وريفها، والتوغل شمال الجزيرة السورية، بالتحالف مع جماعات مسلحة انفصالية تنشط في هذه المناطق، والعمل على تتريك اللاجئين السوريين من خلال المناهج الدراسية، ومنح بعضهم الهوية التركية، وتغيير أسماء المناطق والبلدات في شمال حلب إلى اللغة التركية، ما يمكن أن يشكل أحد أساليب احياء خارطة تركيا الكبرى.

إلى ذلك تقيم تركيا أكثر من عشرين قاعدة عسكرية شمال العراق منذ سنوات، وترفض إخلاءها، رغم مطالبات العراق المتكررة، لحماية أمن تركيا الذي يتطلب السيطرة على الموصل وكركوك.

الأكراد بين التهديد الاستراتيجي والتحدي الإيديولوجي

يشكل الأكراد حالة وإشكالية اقليمية، تشمل سوريا وتركيا والعراق وايران، وتعتبرهم تركيا تهديداً رئيسياً، نشطوا كباقي الجماعات، مستغلين الأحداث في سوريا والعراق، لتحقيق الحلم بإنشاء وطن قومي للأكراد على مساحات جغرافية واسعة تمتد في أراضي الدول الأربع، وأبرز جماعاتهم قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي تصنف تركيا مكونها الأساسي المتمثل بوحدات حماية الشعب الكردي، جماعةً إرهابية وتعتبرها على صلة بحزب العمال الكردستاني، الذي ظل يحارب تركيا على مدار أربعة عقود تقريبًا، دفاعًا عن "حقوق الأكراد".

وتمثل تجربة الكرد السوريين في "الحكم الذاتي الديمقراطي"، المستند إلى المبادئ الاجتماعية الليبرالية التي يتبناها الزعيم الكردي عبد الله أوجلان، تحديًا سياسيًّا وأيديولوجيًّا يواجه تركيا، يذهب إلى ما هو أبعد من التهديد العسكري.

هنا تبرز خشية تركية من أن المكاسب التي حققها الأكراد السوريون ستشجع سكانها الأكراد على إنشاء ولاية صغيرة، تابعة لحزب العمال الكردستاني على حدودها. وتعطي نقاط القوة العسكرية والسياسية والإقليمية، التي يتمتع بها الأكراد السوريون، أوراق مساومة قوية في أي حل سياسي بسوريا، يطالبون من خلاله بالاعتراف بحقوق الأكراد وإلغاء مركزية السلطة، وهو ما تسعى تركيا لمنعه.

تدخلات عسكرية تركية مباشرة

يبدو من الواضح ان التدخل التركي في سوريا ليس عابراً ولا قصير المدى، فهو ينطلق من اعتبارات استراتيجية وقومية ودفاعية، تشكل بالنسبة لتركيا أهمية قصوى.

ففي عام 2016، نفذ الجيش التركي وحلفاؤه من المتمردين عملية درع الفرات، والتي هدفت لمنع الأكراد السوريين من ربط مناطق واقعة تحت سيطرتهم في الشمال الشرقي مع عفرين. وبخلاف شمال شرق سوريا، يغلب العرب على منطقة درع الفرات التي يسيطر عليها الأتراك، فيما أعادت تركيا توطين لاجئين سوريين في المنطقة.

وبعد عامين، أي في عام 2018، شنت تركيا عملية في عفرين تسببت في نزوح ما يقرب من نصف السكان البالغ عددهم 300 ألف تقريبًا. وتستمر وحدات حماية الشعب في عمليات تمرد بسيطة ضد الجيش التركي وحلفائه من المسلحين السوريين.

واتهمت جماعات حقوقية القوات المدعومة من تركيا بانتهاكات كبيرة لحقوق الانسان، بما في ذلك التهجير القسري ومصادرة الأملاك والنهب والتوقيف التعسفي والخطف والابتزاز. ونقلت تركيا عائلات المقاتلين المتمردين ولاجئين آخرين إلى عفرين.

السيطرة على مصادر الماء.. سلاح حربي!

خلال سنوات الحرب الدائرة في سوريا، وبعض مناطق العراق التي تشكل امتداداً جغرافياً لمناطق الصراع السوري-التركي-الكردي، برز استخدام المياه كسلاح استراتيجي تستخدمه تركيا خدمة لأهدافها التوسعية في كلا البلدين، وبحكم السيطرة التركية على منابع دجلة والفرات، فقد تحولت المياه إلى سلعة تجارية تتحكم فيها لأهداف سياسية وعسكرية.

أغلقت تركيا منذ أسابيع وللمرة الثامنة محطة "علوك"، التي تعتبر مصدر مياه الشرب الوحيد لمدينة الحسكة وأريافها، ما أوجد أزمة مياه هددت حياة نحو مليون شخص، تبين ان أسبابها ترتبط بضغط تركي على قوات "قسد"، لإجبارها على تزويد مناطق تواجد الجماعات المتحالفة مع تركيا بالكهرباء.

وقضية المياه، في معظم الدول العربية، أكثر من مجرد مناخ قليل الأمطار، بل قضية سياسية واستراتيجية واقتصادية، حيث تنبع معظم أنهار المنطقة الأساسية من خارج حدودها، تركيا تتحكم بمنابع دجلة والفرات اللذين يمرّان بسوريا والعراق، والنيل ينبع من أواسط إفريقيا ويمرّ بالسودان ومصر، وهذه الأنهار الثلاثة توفر ربع استهلاك الوطن العربي بأكمله من المياه العذبة، واقع شحّ المياه هذا، جعل من الأطراف المسيطرة على منابعه ومصادره تستخدمه كورقة ضغط مؤلمة لتحقيق مكاسب جيو-سياسية، وعلى الصعد كافة.

تركيا التي تشارك كطرف أساسي في الحرب الدائرة في سوريا والعراق، منذ ما يقارب العشر سنوات، تعمد الى استخدام المياه في خدمة أهدافها المتعلقة بقضايا الأكراد والحدود والتوسع الجغرافي، الذي باتت تسعى اليه وتطبقه في أراضي شاسعة شمالي سوريا والعراق، تلك المنطقة التي تعدّ تمثيلاً واضحاً لاصطلاح "حرب المياه".

فخلال العام 2014، نفذت الحكومة التركية تهديدها القديم الجديد بقطع مياه نهر الفرات نهائيا، ما شكل تهديداً بكارثة كبرى، تطاول سوريا في الدرجة الأولى، والعراق في الدرجة الثانية، حيث انخفض منسوب المياه في بحيرة "الأسد" بالقرب من الرقة نحو ستة أمتار، والتي توفر مياه الشرب لملايين السوريين. الأمر الذي اعتبر تدخلاً تركياً جديداً في الأزمة السورية مختلف عن كلّ ما سبقه، إذ بدأت أنقرة قبل قرابة شهر ونصف شهر بخفض ضخ مياه الفرات على نحو تدريجي، وصولاً إلى قطعها تماماً.

تثير هذه التهديدات قضية المياه في الشرق الأوسط، وهي ليست حدثاً مستجداً، ولكن في منطقة هي الأكثر ندرة بالمياه على مستوى العالم، تحول الماء الى واحد من أسلحة الحرب، كما يؤكد اللجوء الى هذا النوع من وسائل الضغط، أنه لن يتوقف وسيتكرر مع كل حاجة اليه، الأمر الذي ينذر بجعل حياة الملايين من سكان المناطق الفقيرة بالماء، سلعة للمقايضة والابتزاز.. تبرز الحاجة هنا الى حماية حق الفرد في الحصول على المياه كحق أساسي غير قابل للاستغلال أو المساومة، لا سيما في مناطق الحروب والنزاعات.. ومع طول الحرب في سوريا وكثرة تشعباتها وعقدها وأطرافها، يبدو أنها لن تنتهي قريباً، وأن المزيد من فصولها لا يزال رهينة الوقت.

Previous
Previous

مع القتلة متعايشين

Next
Next

Slander: From Suleiman to Aoun